شرح : ( لفظ الجلالة: الله عزّ وجلّ )
فأوّل الأسماء التي نشرع في شرحها هو لفظ الجلالة ( الله عزّ وجلّ )، فهو: ( عَلَمٌ على ربّنا الإله المستحقّ للعبادة سبحانه وتعالى ).
ونتطرّق إلى هذا الاسم الكريم في مسائل:
المسألة الأولى: معنى لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه:
اختلف العلماء في كون لفظ الجلالة مشتقّا أو جامدا على قولين:
الأوّل: أنّه مشتقّ من الألوهيّة والإلهيّة، وهي العبوديّة، تقول العرب: أله الشّيءَ أي: عبده وذلّ له. فأصل كلمة ( الله ) كما قال الكسائي والفرّاء وأبو الهيثم: الإله، حذفوا الهمزة وأدخلوا الألف واللاّم، ثمّ أدغمت اللاّم في الأخرى.
ونظيره كلمة ( الأُناس ): حذفوا الهمزة فقالوا: "النّاس".
فالله من إله بمعنى مألوه أي: معبود، ككتاب بمعنى مكتوب، وفراش بمعنى مفروش، وبساط بمعنى مبسوط، وإمام بمعنى مأموم يقصده النّاس.
وروى الطّبريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" هو الّذي يألهُه كلّ شيءٍ، ويعبده كلّ خلق "، وعن الضحّاك عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" الله ذو الألوهيّة والعبوديّة على خلقه أجمعين ".
فإن قال قائل: وما الّذي يدلّ على أنّ الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود ؟
فالجواب هو: أنّ العرب نطقت بذلك في كلامها:
قال ابن سيده: والإلاهة والألوهة والألوهية: العبادة، وقد قرأ ابن عبّاس: ( وَيَذَرَكَ وَإَلاَهَتَكَ ) – بكسر الهمزة – أي: وعبادتك.
القول الثّاني: أنّ لفظ الجلالة جامد، ويُنقل القول بعدم اشتقاقه عن الخليل – كما في " لسان العرب " – وسيبويه – كما في " أوضح البرهان في تفسير أمّ القرآن " للمعصومي – وكثير من الأصوليّين، ولكنْ في نسبة ذلك إلى سيبويه نظر[1].
وقال ابن القيّم في " بدائع الفوائد " (1/26):" زعم أبو القاسم السّهيلي وشيخه ابن العربي أنّ اسم الله غيرُ مشتقّ ".
وأدلّتهم على ذلك:
1-أنّ الاشتقاق يستلزم مادّةً يُشتقّ منها، واسمه تعالى قديم والقديم لا مادّة له فيستحيل الاشتقاق.
2-لو كان مشتقّا لاشترك في معناه كثيرون ممّن يُعبد، وذلك لم يقع، حتّى إنّ فرعون قال:{أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} ولم يقل: أنا الله ! بل عندما ادّعى الألوهيّة قال:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: من الآية38].
3-بقيّة أسماء الله تعالى، تقع صفات، كالرّحمن الرّحيم، وغيرها، وهو لم يقع صفة أبدا.
4-كلّ أسمائه تعالى يمكن ترجمتها إلاّ لفظ الجلالة "الله".
والجواب عن هذه الأدلّة ما يلي:
- أمّا قولهم: إنّ الاشتقاق يستلزم مادّةً يُشتقّ منها، واسمه تعالى قديم والقديم لا مادّة له. فهذا مردود بأنّ سائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرّحيم والسّميع والبصير أسماء مشتقّة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادّة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله.
- وقولهم: لو كان مشتقّا لأُطلِق على كثير من المعبودات، وأنّه لا يقع صفةً، وأنّه لا يمكن ترجمته، فهذا لا يدلّ على ذلك، فإنّ لفظ الجلالة اختصّ به سبحانه، كما اختصّ القرآن بأن أُطلِق على كتاب الله المنزّل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من الكتب، مع كونها مقروءة، ولم يمكن ترجمته كما تُرجمت الأسماء الأخرى. والله أعلم.
المسألة الثّانية: مكانة هذا الاسم.
اسم " الله " جلّ جلاله هو الاسم الجامع، وعلم الأعلام، ولهذا كان له خصائص كثيرة، منها:
1- أنّه علم اختصّ به، وحتّى أعتى الجبابرة لم يتسمّ به، كما مرّ معنا.
2- تُضاف الأسماء إليه، ولا يُضاف إليها، فيقال: الرّحمن الرّحيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرّحمن الرّحيم، حتّى إنّه قال:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180] وقال:{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر].
3- أنّه لا يصحّ إسلام أحد من النّاس إلاّ بالنّطق به، فلو قال: لا إله إلاّ الرّحمن، لم يصحّ إسلامه عند جماهير العلماء.
4- ولا تنعقد صلاة أحد من النّاس إلاّ بالتلفّظ به، فلو قال: الرّحمن أكبر ! لم تنعقد صلاته.
5- وهل هو اسم الله الأعظم ؟.
مسألة اسم الله الأعظم.
قبل البحث في ذلك، فإنّه لا بدّ أن نعلم أنّ المقصود بالاسم هنا ليس بالضّرورة أن يكون كلمة واحدة أو لفظا واحدا، فإنّ ذلك من اصطلاح النّحويّين، وإنّما المقصود شيء تسمّى به، فقد يكون صفة مركّبة من اسمين فأكثر.
وقد دلّت السنّة على أنّ لله تعالى اسما خصّه بما لو دُعِيَ به أجاب، وقد أنكره طائفة من أهل العلم، كأبي جعفر الطّبري وأبي الحسن الأشعري، وجماعة بعدهما كأبي حاتم ابن حبّان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض. وأوّلوا أحاديث الباب بأنّ المراد زيادة ثواب الدّاعي بها.
والقول الرّاجح قول من أثبته، وأحاديث الباب حجّة على المنكرين.
نعم، هناك أحاديث كثيرة في هذا الباب، فمنها الموضوع، ومنها الضّعيف، ولذلك كثُرت الأقوال فيها، وما صحّ منها فهو قليل.
ويلحق بذلك في الضّعف من قال: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطلِع عليه أحدا من خلقه.
وأثبته آخرون معيّنا واضطربوا في ذلك، قال الحافظ ابن حجر:
" وجملة ما وقفت عليه في ذلك أربعة عشر قولا "، وقال الشّوكانيّ رحمه الله في "تحفة الذّاكرين": " قد اختُلِف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولا، قد أفردها السّيوطي بالتّصنيف".
فذكرها، ومنها:
1-( الله ) لأنّه اسم لم يُطلَق على غيره، ولأنّه الأصل في الأسماء الحسنى، ومن ثَمَّ أُضيفت إليه.
2-ومنها ( الرّحمن الرّحيم، الحيّ القيّوم ) بدليل ما رواه التّرمذي وابن ماجه والدّارميّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ:{اَلَم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
وهو الّذي رجّحه ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد".
3-ومنها "الحيّ" و"القيّوم"، بدليل ما أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي سُوَرٍ ثَلَاثٍ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه )).
وهذا القول لا يُخالف القول الذي قبله، وقد انتصر ابن القيّم لهذا كثيرا.
4-ومنها: المنّان، بديع السّماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، الحيّ القيّوم، ودليله ما رواه النّسائي وابن ماجه وأحمد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْمَسْجِدَ وَرَجُلٌ قَدْ صَلَّى وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، ياَ حيُّ ياَ قَيُّومُ !" فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَتَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللَّهَ ؟ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى )).
وهذا في الحقيقة لا يعارض ما سبق، لأنّ لفظ الحي القيّوم ذُكِر.
5- ومنها: الأحد الصّمد الّذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، دليل ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلًا يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " قَالَ: فَقَالَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى )).
قال الحافظ رحمه الله: وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك انتهى.
6- منها: أنّه " اللّهمّ "، بدليل أنّه تكرّر في الأحاديث.
وهذا ضعيف، لأنّه لم يتكرّر في حديث أسماء بنت يزيد، ثمّ إنّ هناك كثيرا من الأدعية – بل جلّ الأدعية – مبدوءة باللهمّ، ومع ذلك لم يقل عنها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها حوت الاسم الأعظم.
ثمّ إنّ الدّعاء باللّهمّ كان معروفا قبل الإسلام، فيبعُدُ أن يكون هو الاسم الأعظم.
الحاصل: أن يقال: إنّ اسم الله الأعظم جنس يشمل عدّة أسماء هي: الرّحمن الرّحيم، والحيّ القيّوم، والأحد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد.