الاعتدال في الإنفاق
لا زلنا نعيش مع عباد الرحمن ،الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وقد حدثنا الله عن حالهم في أنفسهم أنهم (يمشون على الأرض هونا ) ،وعن حالهم مع الناس فهو حال من لا يشغل نفسه بالسفهاء ولا يخاطب الجاهلين إلا سلاما (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) وعن حالهم مع الله﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾،وعن خوفهم من عذاب الله ورجائهم في عفوه ورحمته ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما )
ثم وصف حالهم في أموالهم فقال تعالى :
( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) الفرقان 67
فليس المفترض في عباد الرحمن أنهم قوم لا مال لهم ، كلا فهم أغنياء بالله وليسوا عالة يسألون غيرهم النفقة عليهم ، وقد وصف الله رواد المساجد بأنهم (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) النور٣٧
فهم بلغة العصر رجال أعمالهم تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن واجبهم نحو ربهم
المال مال الله :
والمال في نظر الإسلام نعمة يجب أن تشكر ، وهو أمانة يجب أن ترعى .
ولهذا بوب الإمام النووي في كتابه (رياض الصالحين ) بابا سماه : باب فضل الغني الشاكر ؛ وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها .
والمسلم في ماله مستخلف ، لأن المال مال الله والإنسان أمين عليه ولذلك قال تعالى (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) الحديد 7
فإذا كان المال مال الله والإنسان مستخلف عليه فيجب عليه أن يراعي تعليمات صاحب المال :
ماذا يريد منه ؟
وماذا يرضيه ؟
وماذا يسخطه ؟
فلله سبحانه تعليمات في المال تتعلق بطرق اكتسابه ، أن يكتسبه من طريق حلال ، وكذلك تعليمات تتعلق باستثماره وتنميته ، وتعليمات تتعلق بإنفاقه واستهلاكه وتوزيعه .
قد يجمع الإنسان المال من حله ، قد يكتسبه من حلال ، لكنه ربما يمنع فيه حقا فيبخل ، أو يسرف فيبعثره ذات اليمين وذات الشمال .
فإما أن تجد غنيا بخيلا يبخل عن أداء كل واجب ، أو غنيا متلافا مضيعا للمال ، أما عباد الرحمن فإنهم (إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً )
(لم يسرفوا ) الإسراف هو مجاوزة الحد في النفقة على الطعام والشراب واللباس وغيرها من متاع الدنيا . alt
قال الله تعالى: (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(الأعراف:31.
وانظروا لهذه الصور لنرى حجم الإسراف،والذي وللأسف الشديد صار جزءا من عاداتنا الاجتماعية،
وأخطر المنافذ التي نتعلم منها الإسراف والتبذير، هي الإعلانات التلفزيونية التي تفتح باب الشره والاستهلاك على مصراعيه.
والذين لا هم لهم إلا الشهرة وتحقيق الأرقام القياسية في أكبر (سندوتش في العالم ) أو أكبر وليمة كبسة ، أو أغلى سيارة .........
alt
( ولم يقتروا) التقتير : التضييق في النفقةوهو ضد الإسراف
( وكان بين ذلك قواماً) والقوام بمعنى الاعتدال والحد الوسط
الفرق بين الإسراف والتبذير :
وقد جاء في آية أخرى هذا المعنى فقال تعالى في سورة الإسراء :
( وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (٢٦)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧)وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨)وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩)
الإسراف هو مجاوزة الحد في النفقة كما سبق ، أما التبذير فهو عدم إحسان التصرف في المال، وصرفه فيما لا ينبغي،من الشهوات والمباحات فيما لا نفع فيه أما صرف المال إلى وجوه الخير فليس بتبذير ولذلك قيل (لا خير في إسراف ، ولا إسراف في خير )alt
فلا يسمي الإنفاق في سبيل الله إسرافا كما فعل أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة الكرام ، ونفقاتهم الكبيرة في سبيل الله .
( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧)
أي أشبههم في الشر والمعصية والجحود بنعمة الله .
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨)
وإذا أتاك القريب أو المسكين أو ابن السبيل يرجو منك شيئا ولا تملكه وتبتغي رحمة من الله ورزقا يسوقه لك فعدهم وعدا جميلا إذا وسع الله عليك
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩)
مغلولة من الغل وهو القيد فلا تبخل بالمال وكأن يدك مربوطة إلى عنقك ،وهذا فيه كناية عن البخل ، ولا تبسطها كل البسط ، كناية عن الإسراف كمن ينفق كل ما معه فلا يبقي شيئا .
(فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) فإنك إذا أسرفت قعدت محسورا أي نادما أو معدما ، وإذا بخلت وقترت قعدت ملوما .
وفي الحديث ( ما عال من اقتصد ) أي ما افتقر من اقتصد ، وذلك لأن الذي يقصد ويعتدل في إنفاقه فقلما يفتقر.
المسلم لا يبخل :
البعض يحوز المال فيقتر على نفسه وأهله ، المال في يده وهو محروم منه ، وهذا هو الذي قيل فيه :
بشر مال البخيل بحادث أو وارث
إما حادثة تأكل أخضره ويابسه ، وإما وارث يتمتع به من بعده .
ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم تعجبه هيئته، فسأله ألك مال ؟قال : نعم قال : أي المال عندك ؟ قال : من كل المال آتاني الله (أي عنده الإبل والبقر والغنم والزروع والثمار ، قال ( فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك ) رواه الترمذي وحسنه
وقال تعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) الضحى 11
والحديث ليس باللسان فقط ولكن بالحال أيضا .
والمسلم يحتسب كل نفقة في أوجه الخير عند الله ففي الحديث (أفضل دينار ينفقه الرجل : دينار ينفقه على عياله ، ودينار ينفقه على فرسه في سبيل الله ، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ) رواه مسلم
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص ( وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى ما تجعل في فيّ ( فم ) امرأتك ) متفق عليه
التوازن
للاستهلاك في الإسلام أولويات لا بد من مراعاتها بحيث يبدأ المسلم بسد حاجات نفسه أولاً، ثم أهله ثم أقربائه ثم المحتاجين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمال ) رواه مسلم عن جابر.
و ينبغي للمسلم أن يقوم بتلبية ضروراته أولا، ثم حاجياته، ثم تحسينياته. فالضروري: ما تتوقف عليه حياة الناس كالطعام والشراب.
والحاجيات هي: ما يرفع الحرج ويدفع المشقة عن الناس كالتعليم والمسكن والزواج .
والتحسينيات: ما يؤدي إلى رغد العيش ومتعة الحياة دون إسراف أو ترف أو معصية كسعة المسكن وتوفر وسيلة انتقال له (سيارة ) ووسائل تدفئة للشتاء أو تهوية للصيف ...وهكذا
لكن المشكل أن الكثير منا مبتلى بالتوسع في المباحات والتحسينيات بالسلف والتقسيط ، والمسلم الفطن لا يشتري إلا ماهو في حاجة له ، إلا إذا كان ما يحتاج إليه من الضروريات أو الحاجيات ، فله أن يقترض لذلك .
ويتحدد الإنفاق بالقدرة المالية للشخص فلا يكلف الله نفسا إلا مَا آتَاهَا ،كما قال تعالى: )لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا(الطلاق: 7.
فالمسلم لا ينفق أكثر من طاقته (يمد رجليه على قدر لحافه ) ويوازن بين دخله ومصروفاته .
قصة مسجد (كأني أكلت ) alt
هذا هو اسم جامع صغير في منطقة “فاتح” في اسطنبول والاسم باللغةالتركية “صانكي يدم” أي “كأننيأكلت” أو “افترض أنني أكلت”!!ووراء هذاالاسم الغريب قصة غريبة طريفة ، وفيها عبرة كبيرة.
“كان يعيش في منطقة “فاتح” شخص ورع اسمه “خير الدين كججيأفندي”، كان
صاحبنا هذا عندما يمشي في السوق ، وتتوق نفسه لشراء فاكهة ، أولحم ، أو حلوى ، يقول في نفسه :
“صانكي يدم” “كأنني أكلت” ثم يضع ثمن تلكالفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق له.
ومضت الأشهر والسنوات ، وهو يكفنفسه عن كل لذائذ الأكل ، ويكتفي بما يقيم أوده فقط ، وكانت النقود تزداد فيصندوقه شيئا فشيئا ، حتى استطاع بهذا المبلغ الموفور القيام ببناء مسجدصغير في محلته ، ولما كان أهل المحلةيعرفون قصة هذا الشخص الورع الفقير ،وكيف استطاع أن يبني هذا المسجدأطلقوا على الجامع اسم:
alt
(جامع صانكي يدم(
كم من المال سنجمع للفقراء والمحتاجين
وكم من المشاريع الإسلامية سنشيد فيمجتمعنا وفي العالم
وكم من فقير سنسد جوعه وحاجته
وكم من القصورسنشيد في منازلنا في الجنة إن شاء الله
وكم من الحرام والشبهات سنتجنب لوأننا اتبعنا منهج ذلك الفقير الورع
وقلنا كلما دعتنا أنفسنا لشهوة زائدةعلى حاجتنا: “كانني أكلت