ثم أيها الإخوة: من السبل كذلك لتقوية ضعف الإيمان: استشعار عظمة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها، وعقل معانيها، واستشعارها، وتطبيقها في الواقع.
يقول ابن القيم رحمه الله: أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره -كل الممالك أقوى دولة وأضعف دولة- نازلٌ من عنده وصاعدٌ إليه، وأملاكه بين يديه، الملائكة تنفذ أوامره في أقطار الممالك -لا أحد يصده عن تنفيذ أمر الله- موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه، حيٌ لا يموت، قيومٌ لا ينام، عليمٌ لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصيرٌ يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميعٌ يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً.
يسمع ضجيج الأصوات: الآن العباد يضجون بالأصوات في أنحاء الأرض، والله عز وجل يعلم كل واحدٍ منهم ماذا يقول، ولا تشتبك عليه الأمور، ولا تلتبس عليه اختلاف الأصوات، ولا اختلاف اللغات، ولا اختلاف الحاجات التي يدعو بها العباد، هذا يقول: اللهم أعطني ولداً، وهذا يقول: اللهم اشف مريضي، وهذا يقول: اللهم ارزقني وظيفة ومالاً، وهذا يقول: اللهم ارزقني الجنة، وهذا يقول: اللهم ارحم ميتي، فلا تختلط عليه الأشياء، ولا يعجزه علم ما يقول هذا من هذا.
ونحن البشر العجزة لو تكلم ثلاثة مع واحد في نفس الوقت، فقد التمييز، والله عز وجل ملايين الأصوات تصعد إليه، فيسمع كلام كل واحد.
فإذاً أيها الإخوة: إدراك معاني الأسماء والصفات، وماذا يعني كل واحد؟ وكيف نطبق هذه الأسماء ونستفيد منها في الواقع، ماذا نستفيد من اسم الرزاق؟ ماذا نستفيد من اسم الغفور؟ من اسم الرحيم؟ ( إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة ) أحصاها بأن يعمل بها في الواقع، وأن يحفظها كما قيل، وأن يعلم معناها، يعلم ويحفظ ويطبق.
التفكر في عظمة الرب وقدرته
من استشعار عظمة الله أيها الإخوة! هناك مواقف تمر بنا في القرآن إذا فكر فيها الإنسان المسلم، يشعر بأشياء يرتجف لها قلبه، وهو يفكر ويستشعر عظمة الله عز وجل، هذا الاستشعار لعظمة الله أمرٌ مهمٌ.
عندما تتأمل يا أخي قول الله عز وجل: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ } [الزمر:67] { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } [يونس:61] { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر:19] عندما تتأمل في قصة موسى عليه السلام لما طلب أن يرى ربه: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً } [الأعراف:143].
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قرأ هذه الآية وقال هكذا (ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر) ثم قال عليه السلام: ( فساخ الجبل ) أي: تجلى من الله هذا المقدار فساخ الجبل: ( حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) هذا الاستشعار لعظمة الله يقوي الإيمان، قال ابن القيم رحمه الله: إسناده صحيح على شرط مسلم .
التفاعل مع الآيات الكونية
كذلك أيها الإخوة: من الأمور التي تجدد الإيمان: التفاعل مع الآيات الكونية كما يتفاعل القلب مع آيات القرآن، فكيف يكون التفاعل مع الآيات الكونية؟ أعطيكم مثالاً: روى البخاري و مسلم وغيرهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً، أو ريحاً؛ عُرف ذلك في وجهه ) أي: يتفاعل مع الأحداث الكونية، فإذا رأى غيماً أو ريحاً؛ عُرف في وجهه الفزع والخوف، فقالت عائشة : ( يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية ).
لماذا الناس يستبشرون، وأنت يا رسول الله! تعرف في وجهك الكراهية إذا رأيت الغيم أو المطر؟! فقال: ( يا عائشة ! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ) وقد عُذب قومٌ بالريح: { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } [الحاقة:6-7] قال ( وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا ) قومٌ من الأقوام أرسل الله لهم رسوله، فلما جاءهم العذاب في ظُلة، قالوا: هذا سحاب سيمطر ويمشي، وإذا فيه العذاب الذي نزل على رءوسهم.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة! كان يتفاعل مع الآيات الكونية، ومع الأحداث الكونية، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى الكسوف، أو الخسوف، ماذا كان يفعل؟ كان يخرج فزعاً إلى الصلاة؛ لأن هذه من آيات الله التي يخوف الله بها عبادة، فتفاعل القلب مع هذه الأشياء والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويُذكر القلب بعذاب الله، وبطش الله، وعظمة الله عز وجل، وقوته وقدرته.
ومرتبط بهذه النقطة أيضاً مسألة أخرى: التأثر عند المرور بمواضع العذاب والخسف وقبور الظالمين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصل الحِجر ) أي: ديار ثمود التي يذهب لها الناس اليوم للسياحة وبِعثات الآثار لالتقاط الصور وعمل التحقيقات، ويقيمون المخيمات هناك مع الأسف الشديد، ماذا كان رسول صلى الله عليه وسلم يفعل؟ اسمع يا أخي! ماذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما وصل الحِجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم ) لا تمروا بتلك الديار.
وفي رواية: ( لما مرَّ صلى الله عليه وسلم بـ الحِجر ، قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين ) باكين من ماذا؟ من تذكر نقمة الله وعذاب الله الذي حلَّ بهؤلاء الناس، ثم قنَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير حتى جاوزا الوادي أن يصيبهم ما أصاب الذين ظلموا.
تأمل يا أخي: الآن قسوة قلوب الناس واستخفافهم، يقولون: ذهبنا نرى وأخذنا صوراً بالكاميرا، وما حصل لنا شيء، والله عز وجل يقول: { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [هود:83] لما أنزل الله الحجارة على قوم لوط، ماذا قال؟ { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [هود:83] أي: أن يصيبكم ما أصابهم، فقد ينزل بأناس مثل: عذاب أولئك.
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيحدث في هذه الأمة خسف وقذفٌ ونسفٌ ومسخٌ، وتأتي ريحٌ حمراء، ويأتي فيها عذاب.
تعظيم حرمات الله
ومن الأمور كذلك المجددة للإيمان في القلب: تعظيم حرمات الله، يقول الله سبحانه وتعالى: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج:32].
وعكس هذه المسألة التهاون في حرمات الله، فلا بد من تعظيم حرمات الله، فهي حقوق الله، قد تكون أشخاصاً أو أمكنة أو أزمنة.
ومن تعظيم حرمات الله في الأشخاص حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، والأمكنة مثل: جبل عرفات ، والحرم، والأزمنة مثل: شهر رمضان، والثلث الأخير من الليل: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج:32] { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج:30].