من المسلّمات القرآنية وقوع نفختين في العالم، النفخة الأولى عندما يصل عمر الدنيا إلى نهايته، و بهذه النفخة يتم القضاء على جميع المخلوقات على وجه الأرض، و النفخة الثانية التي تعرف بنفخة الحياة، فإن جميع الناس تعاد إلى الحياة و ينشرون مرة أخرى و كلا النفختين تقعان بشكلٍ مفاجئ و دون سابقة، و ليس من المعلوم مقدار الفاصل الزمني بين النفختين، فقد ورد في بعض الروايات أن الفاصلة تبلغ أربعين سنة، و لم يعرف أساس هذا التحديد و معياره في النفخة الأولى تتشكل القيامة، و قبل القيامة تقع عدة حوادث في العالم يطلق عليها «أشراط الساعة» أي مقدمات القيامة، و كأن بعض الآيات القرآنية تؤيد وقوع القيامة المفاجئ، و في وقتٍ يمارس فيه الناس حياتهم الاعتيادية، فتأتي القيامة و تحيط بالجميع، يقول تعالى: ﴿ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُون﴾ و يقول في آية أخرى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ و معنى هذه الآيات أن أهوال القيامة و حوادثها تقع بعد شروع القيامة و إماتة جميع الناس و ذلك بعد نفخة الصور الأولى. مفصل: لإيضاح المسألة بشكلٍ كامل لا بد من الرجوع إلى الآيات القرآنية الكثيرة التي تتحدث عن يوم القيامة و ما يحدث في ذلك اليوم، و ذلك ما نتعرض له من خلال بحث المسألة. و لذلك نرى من الضروري إيضاح معنى البرزخ و النفخ في الصور. البرزخ: الحاجز المتوسط بين الشيئين [1] ، يقول تعالى في القرآن: ﴿بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ﴾ [2] و في آية أخرى: ﴿وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [3] . و يقال أن عالم الموت برزخ لأنه واقع بين عالم الدنيا و عالم الآخرة، و بالرجوع إلى الآيات القرآنية نج دها تؤكد أن جميع بني البشر يذوقون الموت [4] . حيث تبدأ حياة البرزخ، فالجميع إذن يردون عالم البرزخ «عالم ما بين الدنيا و الآخرة» [5] . النفخ في الصور: يعني النفخ في البوق [6] و الصور يعني البوق [7] و عادة ما يستعمل لبدأ حركة القافلة أو الجيوش أو توقفها. و هناك فرق بين الأمرين بين بوق الحركة و بوق التوقف فبوق التوقف يوقف القافلة سريعاً و امّا بوق الحركة فهو إيذان بالحركة. و هكذا تعبير يدل على إبراز السهولة في الأمر، حيث يميت الله أهل السموات و الأرض بإرسال صوت واحد و يحييها بصوتٍ واحد، ثم بأمرٍ واحد و بنفخة واحدة يسوق الجميع و تبدأ الحركة من خلال «نفخة الحياة» [8] . إن رسم خارطة القيامة يمكن أن يصور بصورتين: 1ـ عالم ما بعد النفخة الأولى حتى النفخة الثانية. 2ـ عالم ما بعد النفخة الثانية. من المؤكد -استناداً الى القرآن الكريم- وقوع نفختين في العالم، [9] النفخة الأولى تقوم عند نهاية عمر الدنيا، و بهذه النفخة يطال الموت جميع المخلوقات [10] . و أما النفخة الثانية المعروفة «بنفخة الحياة» فإنها آذان بعودة الحياة إلى جميع الناس [11] . و كلا النفختين تقعان بشكلٍ مفاجئ، و ليس من المعلوم الفاصلة الزمنية التي تفصل بين النفختين، فقد ذكر في بعض الروايات أنها تكون أربعين سنة، و لا يوجد معيار لذلك [12] . و في النفخة الأولى تتشكل القيامة [13] ، و قبل القيامة تقع عدة حوادث في العالم يطلق عليها «أشراط الساعة» أي مقدمات القيامة. أشراط الساعة في القرآن: تقع عدة حوادث في العالم قبل وقوع القيامة تعرف بأشراط الساعة، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ [14] يقول العلامة الطباطبائي (ره) في تفسير الآية: «و قيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي (ص) و هو خاتم الأنبياء و انشقاق القمر و نزول القرآن و هو آخر الكتب السماوية. هذا ما يعطيه التدبر في الآية من المعنى و هي - كما ترى - حجة برهانية في عين أنها مسوقة سوق التهكم.» [15] . و بالتوجه إلى الآية فإن هذا التفسير في محله لأن الله سبحانه يقول: ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ ، و توجد روايات كثيرة تبين أشراط الساعة حيث ذكرت حوادث مهولة و ما هي إلا ما ذكر القرآن في وصفه أشراط الساعة. و هناك بعض العلماء يرى أن الحوادث المذكورة في القرآن و التي تقع في يوم القيامة هي من أشراط الساعة [16] . و هنا يمكن أن تطرح عدة أسئلة: 1ـ هل أن المراد بأشراط الساعة الحوادث المذكورة و التي تحدث قبل وقوع القيامة؟ و بعبارة أوضح: هل أن هذه الحوادث تقع قبل النفخة الأولى؟ و إذا كانت أشراط الساعة هي الحوادث الواقعة قبل النفخة الأولى فسوف نواجه إشكالاً. و ذلك أولاً: هناك قرائن في القرآن تدل على أن هذه الحوادث بعد النفخ الأول، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ [17] ، و كما هو واضح فإن تلاشي الأرض و الجبال و ما يحدث للسموات كل ذلك بعد نفخة الصور الأولى، فلا بد أن تكون جميع الحوادث الواردة في القرآن الكريم فيما يخص تكوير الشمس و النجوم [18] ، و الآيات المتعلقة بانقلاب الأرض [19] و طي السماء [20] تكون بعد النفخة الأولى، لأن هذه الحوادث ذكرت في القرآن لمرة واحدة و كذلك في الأحاديث، و لا توجد أي قرينة تدل على تكرار مثل هذه الحوادث في وقتٍ آخر في تاريخ العالم. ثانياً: هناك عددٌ كبير من الآيات المتعلقة بالحوادث المذكورة تبدأ بكلمة «يوم» أو «إذا» مما يدل على وجود يومٍ خاص للقيامة [21]. ثالثاً: الرويات المرتبطة بأشراط الساعة، لم تذكر هذه الحوادث باعتبارها مقدمات ليوم القيامة [22]. 2ـ هل أن الناس على وجه الأرض يجربون هذه الحوادث؟ إذا كانت هذه الحوادث تقع بعد النفخة الأولى فهذا يعني أن النفخة الأولى يعقبها موت جميع المخلوقات الحية، و إن هذه الحوادث المهولة تكون بعد الموت الجماعي في العالم. إن بعض الآيات القرآنية [23] تؤكد وقوع القيامة بشكل مفاجئ حيث يمارس الناس أعمالهم اليومية بشكلٍ طبيعي فتحيط بهم القيامة، يقول تعالى: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ [24] و يقول في آية أخرى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [25] و هذا يعني أن الحوادث المهولة تقع بعد قيام القيامة و بعد موت الجميع عقب النفخة الأولى. الإشكال: إن بعض الآيات القرآنية تتحدث عن وقائع القيامة و كان الناس قد مروا بها و جربوها، كما في الآية 2 من سورة الحج، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَ مَا هُمْ بِسُكَارَى وَ لَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ الجواب: صحيح ان البعض ذهب الى ان هذه الزلازل يقع قبل النفخة الأولى [26] . و لكن بالتوجه إلى القراءة المذكورة فإن لهذه الآية معنىً آخر تشير إليه. فإن هذه الآية تشير إلى زلزال يوم القيامة بقرينة قوله «و لكن عذاب الله شديد» و هذا يعني أن الجمل المتقدمة تأخذ صورة المثال، أي أن شدة ذلك اليوم بدرجة بحيث لو وجدت نساء ذات أحمال لوضعت حملها، و لو وجدت مرضعات لنسين أطفالهن الرضيع [27] . عالم ما بعد النفخة الثانية: بعد هذه النفخة تعود الحياة لجميع البشر [28] ثم ينتشرون بذهول كأنهم جراد منتشر و َالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [29] مسارعين إلى ساحة الحضرة الإلهية [30] و في هذا العالم تنكشف الحقائق [31] و بعد حساب الجميع فرداً فرداً يساق كل واحد إلى مكانه الأبدي. النتيجة: بالتوجه إلى المباحث المتقدمة، و ما يقوله تعالى بخصوص أحوال أهل البرزخ [32] . الذين يعادون إلى الحياة بعد النفخة الثانية يمكن الوصول إلى نتيجة ملخصها: إن البرزخيين ليس لهم أي دور في حوادث ما بين النفختين.